(1) كان غريبًا أن يسأل فلاح مثله إنساناً مثلي لا تربطه به صداقة ويحدثه عمَّا رآه في نقل جسد شهيد من قبر الى آخر ,وكان يظهر على وجهه الذي يتلألآ كالشمس وعينيه النجلاوين الواسعتين، أثر سؤال يحمل بين ثناياه تساؤلاتٍ، تحمل ندوب الشهقات ,فاستمات لمعرفة الجواب ,وكأنه يقول ذاك أنا .
وطالت دهشتي وأنا أحدق في الفلاح الشاب , فأسرعت في الإجابة ، وتحسست سبلاً كثيرة لهدايته، وأنا أقول: رحمه الله , رائحة المسك تفوح من جسده، رغم دفنه منذ شهرين !
وأوضح الفرق بين الشهيد و بين من مات حتف أنفه ,فقلت: وكأنه مدفون منذ ساعة .
ثم تناقشنا معا ,وكان يميل لمعرفة قيمة الشهادة, فشبهت له الشهيد بالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين .
استنشق نسيم هواء القرية العذب بأنفه الطويل، وأخذ يوزع نظراته ببريق عينيه السوداوين ما بين النخلة والزرع ,و ينظر الى براءة الطيور المحلقة ..
يبحث في ذهنه عن علة بقاء جسد الشهيد وكيف تأكله الأرض ؟
ولكني نجحت أخيراً في قولي ,فذكرت بأن روح الشهيد بلغت درجة ومنزلة من السمو والطهارة حيث يترك هذا السمو والطهر آثاره على جسده و دمه، وعلى ما يرتديه من لباس , فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته .
ـ رد قائلا: إنها طاهرة الروح.
فقلت : نعم . استأذن , ولست أدري ما دار في عقله ,فما كنت أرى أفكاره وقد حجبها عظم ولحم الرأس .
تبسم لي قليلا ليوحي بأنه وجد ضالته , ثم مضى وهو يدعو بكلمات لم تلتقط أذني منها إلا هذه الكلمات فأُطالبكَ ياربّ أن ترزقني شهادةً مُطَهِّرَةً أنا اخترتُها لنفسي كفارةً عن ذنبي.
ولم يستدر نظري عنه وهو يخترق الأرض الزراعية المزدحمة بالأشواك ,ولا عن ثوبه الأنيق الذي يشبه لون الكفن ,او حتى عن قدميه اللتين كانتا تخطوان خطوات ثابتة من ذيل الثوب كطابوق صلب .
وأراقبه في عجب وهو ينشب رجليه الطويلتين كساقي زرافة في الأرض ,ولا يهتز وهو يتحرك.
راقبته طويلا حتى أتعبني كل دقيقة في مسيره , فقد كنت أتـوقع في كل ثانية أن يعود فيسأل ؟
وأخيراً استطاع الفلاح الشاب أن يخترق الأرض دون العودة بسؤال آخر .
و استأنف سيره في بستان ,وقبل أن يختفي بين الأشجار، شاهدته يتوقف دون حراك .
وكاد ثعبان يقتلني وأنا أسرع لمعرفة ماذا حدث ! وحين وصلت كان يقف ثابتاً على ما يرام يتفرج على منزل الشهيد ويتابع أطفاله , وهم يلعبون ويضحكون – بكل سعادة . ولم يلحظني، ولم يتوقف كثيراً، فمن جديد راحت ساقاه تمضيان به , وقبل أن ينحرف ,استدار الى الخلف على مهل ينظر لي بالفتحات الكبيرة الداكنة السوداء في وجهه ,وألقى نظرة طويلة على وجهي ,وحرك شفتيه العريضتين الحمراوين ,وقال :ـ أين هو الآن ؟
ـ كانت إجابتي بسؤال … من؟
تلعثم الفلاح وأطرق هُنيئة ,
وأجاب: الشهيد .
ـ قلت: حسب الآية: (ولا تحسبن ) …عند ربّه حيّ يرزق .
ـ رفع كفيه وتلفظ: هنيئًا له ,اللهم اجعلني عندك . وأردف … أسألك يا أخي .. وأُقسم عليك بدم سيد الشهداء، أن تلحقني بركب الحشد الشعبي .
تأملت في قوله ,وقلت بإذن الله .
واتصلت بالقائد ,فأمرني أن أزوّده برقم هاتفه . وأبلغت الفلاح بألا يحدثني عما يجري بينهما من حديث حول لقاء ,أو تكليف ,أو تدريب !
ـ استغرب الطلب بكلمة لماذا؟ قلت: هذا مبدأ ,فالمعرفة على قدر الحاجة , ولتقديس أسرار الجهاد .
ودعته بشعور مفارق , جسد لا يرى جسد أخيه مرة أخرى ,وربما تلتقي الأرواح , فودعني بحرارة غامرة بالبهجة والسرور .
(2) بعد شهرين وفي صباح سبت كنت في جبهة جرف الصخر ,فاستدعاني القائد ,وأبلغني بالتحاق المجموعة الجديدة التي ستكون بإمرتي .
واصطحبني معه ليعرفنا على بعض. ونحن نتخطى إليهم ,فجأة رأيته معهم … رفرف صدري كجناحي العصفور ,وزقزق قلبي فرحا ,وهفهف البطينان مرحباً.
مستعيدًا لحظة اللقاء والحديث معه عن جسد الشهيد في شريط سريع وأنا أراه. ـ نظر القائد إليّ , وقال صاحبك الفلاح.
قلت: لم أتوقع ذلك. وسألته كيف هو في التدريب؟
رد …كالأسد الضاري عندما يقتل اسودا.
نهض من بين المجموعة ,وأقدم يجري إليّ سريعا ,وأسرعت إليه ,فتعانقنا عناق أجساد .. كأخ لم يرَأخاه منذ سنين. وردّ يقول بعزة: ـ رأيت فيك رؤيا فجراليوم. ـ فنطقت .. ماذا ؟
ـ سالت قطرات من دموعه على خديه وهو يقول: جسدك يتذرى بالهواء.
ـ تدخل القائد بأحسن القول: ذلك مصير كل من تربّى بحجر ثورة سيد الشهداء.
ـ فدعوت … أسال الله أن يكون ذلك .
سار بنا القائد نمضي الى الأخوة بخطوات حتى وقفنا تحت شجرة الزيتون ,وقام بمهمة التعارف بيننا، وأمرهم بالطاعة ,ثم ذهب وتركني معهم .
وبدا لي من أول الأمر إيمان وشجاعة المجموعة، واستهانتهم بالعدو ,وإصرارهم على النصر أوالشهادة.
لا أعرف ما حدث لي عندما رأيت حماستهم وانفعالهم ,ولكن الشيء المؤكد أني قررت احتواء انفعالهم .
طلبت منهم أن يجلسوا على حشائش الأرض؛ حيث ظل الشجرة التي أقف تحتها.
بدأت اسأل كل فرد منهم عن سبب تطوعه؟ فأجمعوا على رأي واحد هو الشهادة .
ـ فقلت : من يبحث عن لقاء المعشوق ,فأكيد يقدم الدم والروح كهدية . صاحبي يصغي ويحلل كلامي ,وبعد أن أكملت العبارة شعرت بأنه سيكملها بكلمة، وما لبث أن نطق: وجسده .
ـ ذلك صحيح ,ولابد أن تكون الهدية ثمينة .
ـ ثمينة ! ـ نعم ,نتعب العدو في وصوله إلينا, ونختار الموقف بدقة في تقديمها .
قضيت ساعة معهم كأنها لحظات , واتفقنا على موعد الغداء بعد صلاة الظهر في ذلك المكان ,وذهبوا مجاميع حسب التقسيم: كل ثلاثة أفراد الى نقطة.
طلبت من الفلاح الشاب أن يرافقني في رحلة الاستطلاع؛ لرصد مواقع العدو الذي يبعد عنا كيلو متر واحد في منطقة الفارسية.
(3) رحلة ساعة ثم دخلنا الغرفة الصغيرة المتنقلة وخلعنا الملابس العسكرية لنرتدي ملابس سوداء تشبه ما يلبسه العدو.
عرفت لمرافقي ما سنقوم به خلال وقت محدد، وضحت له أثناء لبس الملابس الجديدة بأن الحذر مهما بلغ أوجه لا يمنع القدر.
ـ ردّ صديقي بقوله: كنت أتمنى أن استشهد بملابسي الأولى.
ـ رأيت من واجبي تذكيره برؤياه بي فجر هذا اليوم ,فقلت: بالنسبة لي لا يفرق معي لأن جسدي سيتذرى بالهواء.
ـ تبسم وهو يقول: عندك يا أخي لكل سؤال جواب. كانت الأفكار مركزة في ذهني عن هذه الرحلة, وأنتظر سؤال صديقي عن الهدف منها. وحين خروجنا من الغرفة تفوّه مستفهماً ؟
ـ هل استطلاعنا دفاعي؟ ـ تأملت قليلا , وقلت: كلا، بعده سيكون هجوميّاً.
غمرته الفرحة ونهض بهمّة،آخذاً دوره؛ لتبليغ النقاط كافة بأننا سننطلق.
وبعد نصف ساعة من السير في البساتين وصلنا بالقرب من تجمعات الإرهاب أخذنا نراقب تحركاتهم وأعدادهم.
عدنا بعد انجاز المهمة الاستطلاعية ,وأبلغت القيادة باحتياجات مجموعتي من أجل الهجوم .